السر القديم: الجذور الأميركية للجذام قبل كولومبوس

أضيف بتاريخ 06/11/2025
منصة المَقالاتيّ


لطالما ارتبط مرض الجذام في الأذهان بأساطير العصور الوسطى، وبتجليات العزلة الاجتماعية التي فرضها على المصابين به حول العالم. لكن الاكتشافات الحديثة في علم الوراثة والآثار فتحت فصلاً جديداً في تاريخ الجذام، وقلبت التصورات السائدة حول أصوله في القارة الأميركية رأساً على عقب.

قبل سنوات قليلة، كان الاعتقاد السائد أن الجذام دخل إلى الأميركيتين مع وصول المستعمرين الأوروبيين، لكن تحليلات الحمض النووي لكائنات دقيقة استُخرجت من بقايا بشرية عُثر عليها في مواقع أثرية متناثرة بين كندا والأرجنتين، كشفت عن وجود سلالات مميزة من البكتيريا المُسببة للجذام، وهي "المتفطرة الجذامية" (Mycobacterium lepromatosis)، في أمريكا قبل وصول كولومبوس بمئات السنين، بل ربما قبل آلاف السنين.

هذه البكتيريا، التي تم التعرف عليها لأول مرة عام 2008، تختلف جينياً عن نظيرتها الأكثر شيوعاً (M. leprae). التحليل الجيني أظهر أن السلالات الأميركية من الجذام تطورت من سلف مشترك منذ أكثر من تسعة آلاف عام، ما يشير إلى أن الجذام كان موجوداً كمرض مستوطن في القارة منذ حقب قديمة جداً. الأدلة الوراثية أيضاً تقترح أن انتشار الجذام بين السكان الأصليين لم يكن بطيئاً كما كان يُعتقد، بل كان سريعاً، حيث انتشرت البكتيريا في مناطق شاسعة من القارة خلال بضعة قرون فقط.

الأمر الأكثر إثارة هو أن السلالة السائدة من الجذام في أمريكا الوسطى والمكسيك حالياً هي تلك التي تسبب ما يُعرف بالجذام المنتشر، وهو شكل نادر من المرض في بقية أنحاء العالم، مما يؤكد أن هذا النوع من الجذام لم يُستورد من أوروبا، بل هو جزء من التاريخ المرضي للسكان الأصليين في المنطقة. هذه النتائج تعيد كتابة التاريخ المرضي للقارة، وتؤكد أن السكان الأصليين واجهوا تحديات صحية فريدة خاصة بهم، قبل أن تفرض عليهم الأمراض الأوروبية تحديات جديدة.

هذه الاكتشافات لم تكن ممكنة بدون التقدم الكبير في تقنيات دراسة الحمض النووي القديم، والتي سمحت للباحثين بفك شفرات الأمراض التي عانى منها أسلافنا منذ آلاف السنين. كما أن التعاون مع المجتمعات الأصلية في دراسة بقايا الأسلاف، واحترام التقاليد الثقافية وخصوصية المعلومات الوراثية، أصبح جزءاً أساسياً من منهجية البحث العلمي الحديث في هذا المجال.

هذه الرحلة في أعماق التاريخ المرضي ليست مجرد بحث عن أصول الجذام، بل هي رحلة في فهم تعقيدات الصحة والمرض عبر الزمن، وكيف تؤثر البيئة والتاريخ على انتشار الأمراض بين البشر. الاكتشافات الجديدة تفتح الباب أمام فهم أعمق لتاريخ الأمراض المعدية في الأميركيتين، وتدعونا إلى إعادة التفكير في قصصنا حول الأوبئة والتحصين، ليس فقط في الماضي، بل أيضاً في حاضرنا ومستقبلنا.