قديسون عبر الحدود: قصص عابري الجنس في بدايات المسيحية

أضيف بتاريخ 06/03/2025
دار سُبْحة


في أعماق التاريخ المسيحي، تظهر قصص مذهلة لأشخاص تحدوا التصنيفات التقليدية للجنس والنوع، ليصبحوا رموزاً للقداسة والتحول الاجتماعي. فقد وثّق الباحثون ما لا يقل عن 34 سيرة ذاتية لقديسين يمكن وصفهم اليوم بأنهم "عابرو الجنس"، عاشوا في القرون الأولى للمسيحية. من بين هؤلاء برزت ثلاث شخصيات أثرت بشكل كبير في المخيال الديني الأوروبي: القديسة يوجينيا، والقديسة إيفروسيني، والقديس مارينوس. جميعهم ولدوا إناثاً، لكنهم اختاروا العيش والتعبد كرجال، ودخلوا الأديرة متخفين بهويات ذكورية.

لم تكن هذه القصص مجرد روايات لتجارب فردية استثنائية، بل تحولت إلى نماذج أخلاقية واجتماعية. لم يُنظر إليها كوقائع تاريخية بقدر ما كانت وسائل لنقل القيم المسيحية وتعليم الناس كيفية فهم وتقليد الفضائل الدينية. في هذه الحكايات، كان التحول من الأنوثة إلى الذكورة يُقدم كرمز للانتقال من الوثنية إلى المسيحية، وكأن القداسة لا تتحقق إلا بنكران الأنوثة، مما يعكس تصورات العصور الوسطى عن التفوق الذكوري والروحانية كفضيلة "ذكورية".

تبرز سيرة القديسة يوجينيا كمثال لافت: ولدت في الإسكندرية كابنة لحاكم وثني، لكنها تأثرت بالتعاليم المسيحية، فاعتنقت الدين الجديد، وقصت شعرها وارتدت ملابس الرجال، ودخلت ديراً باسم "يوجين". هناك، اشتهرت بقدرتها على شفاء المرضى ونالت احترام الرهبان. وعندما انكشفت هويتها بعد وفاتها، لم يُنظر إليها كمخادعة، بل كقديسة، وأصبحت رمزاً للتحول الروحي والاجتماعي.

أما القديس مارينوس، فقد عاش في دير للرجال طوال حياته، ولم يُكتشف جنسه البيولوجي إلا بعد وفاته. ورغم أن الكنيسة أدانت في فترات معينة التنكر الجنسي، إلا أن قصص هؤلاء القديسين استمرت في الانتشار، واعتُبرت دليلاً على التفاني والزهد، حتى وإن خالفت القواعد الاجتماعية والدينية السائدة.

هذه الظواهر لم تقتصر على المسيحية. ففي حضارات أقدم مثل سومر، وُجدت طائفة كهنة "جالا" الذين جمعوا بين صفات الذكورة والأنوثة، وخدموا الإلهة إنانا, مما يشير إلى وجود تقاطعات ثقافية في مفاهيم النوع والروحانية عبر العصور.

تكشف هذه القصص أن مفاهيم الجنس والنوع لم تكن ثابتة في التاريخ، بل كانت مرنة وخاضعة للتفسيرات الدينية والاجتماعية. لقد لعبت الروايات الدينية دوراً محورياً في تشكيل الهوية الجماعية ونقل القيم، وجعلت من شخصيات عابري الجنس رموزاً للسعي نحو الكمال الروحي، حتى لو كان ذلك على حساب الهوية الجسدية التقليدية.

اليوم، تجدد هذه السير النقاش حول التنوع الجندري في التراث الديني، وتذكرنا بأن التاريخ حافل بأشخاص تجاوزوا الحدود المألوفة، وتركوا أثراً دائماً في الذاكرة الجماعية.