في عالم تشالمرز: هل ما زلنا نعرف ما هو الحقيقي؟

أضيف بتاريخ 06/14/2025
منصة المَقالاتيّ

في عصر يتسارع فيه انهمار التقنية في كل مناحي حياتنا، يطرح ديفيد تشالمرز، الفيلسوف الأميركي-الأسترالي وأحد أبرز فلاسفة العقل والوعي في العالم، أسئلةً تمسُّ جوهر وجودنا كبشر. تشالمرز، الذي يعمل أستاذاً للفلسفة والعلوم العصبية في جامعة نيويورك ومديراً مشاركاً لمركز العقل والدماغ والوعي، يُعيدنا عبر كتاباته وأفكاره إلى الإشكاليات الفلسفية القديمة، لكن من زاوية جديدة تماماً: زاوية التقنية والعوالم الافتراضية.



يدور السؤال الأساسي حول طبيعة الواقع: هل ما نعيشه هو واقع حقيقي أم أنه مجرد محاكاة؟ لطالما راود هذا التساؤل الفلاسفة منذ عصر الإغريق وحتى اليوم. لكن تشالمرز يضيف له بعداً معاصراً عندما يعيد طرحه في سياق العوالم الرقمية والميتافيرس. في كتابه الجديد، يجادل بأن الواقع الافتراضي، في العقود القليلة المقبلة، قد يصبح غير قابل للتمييز عن الواقع الفيزيائي، وسيكون من العبث محاولة التفريق بين العالمين. الواقع الافتراضي سيكون واقعاً أصيلاً بقدر الواقع الحقيقي، ولن يكون أقل قيمة أو معنىً منه.

تشالمرز لا يرى في هذا الأمر تهديداً لمفهومنا عن الحقيقة أو الهوية. بل فرصةً لإعادة النظر في فلسفاتنا القديمة عن الوعي، الهوية، والعناصر الوسيطة. فالعوالم الافتراضية تفتح أمامنا نوافذ جديدة للبحث الفلسفي، وتجبرنا على إعادة التفكير في مفاهيمنا المسبقة عن الواقع. لقد أصبحنا سادة العوالم التي نبتكرها، وقادرين على خلق مجتمعات رقمية تتيح تجارب غنية وفريدة، خاصةً للأفراد الذين يعانون من قيود في العالم المادي، كذوي الاحتياجات الخاصة أو المسنين أو غير المنتسبين للجنسين.

لكن تشالمرز لا يغفل عن المخاطر. فكما أن الواقع الافتراضي يمكن أن يكون مصدراً للخير، يمكن أن يكون فضاءً للشر أيضاً، مع تهديدات للخصوصية، التنمر الإلكتروني، وهيمنة الشركات الكبرى. إن وعد العوالم الافتراضية هو توفير وفرة رقمية للجميع، لكن الشركات تحاول فرض الندرة المصطنعة عبر الأسواق الرقمية، مما يحول المدينة الفاضلة الرقمية أحياناً إلى واقع صعب.

يناقش تشالمرز أيضاً فرضية المحاكاة، التي تقول بأننا قد نعيش فعلياً في عالم محاكى، مثلما تناولها فيلم "ذا ماتريكس". لا يمكننا دحض هذا الاحتمال، لكنه يؤكد أن ذلك لا يقلل من قيمة حياتنا أو معناها. فما يهم هو التجربة ذاتها، سواء كانت في عالم مادي أو رقمي.

تتجاوز أفكار تشالمرز حدود الفلسفة التقليدية لتلامس الجدل القديم بين العقل والجسد، وتعيد إحياء الأسئلة الديكارتية في سياق رقمي. إنه يدعو إلى ما يسميه "الفلسفة التقنية"، حيث تساعدنا الفلسفة على فهم تحديات التقنية، وتساعدنا التقنية على إعادة صياغة الأسئلة الفلسفية القديمة. كما يستلهم تشالمرز من التراث الفلسفي العالمي، من الإغريق إلى الفلاسفة الصينيين، ويذكرنا بقصة زوانغ زو الذي تساءل: هل هو حقاً من حلم أنه فراشة، أم أنه فراشة تحلم بأنها زوانغ زو؟ بالنسبة لتشالمرز، العالم الافتراضي هو نوع من العالم الحلمي، لكنه يتم عبر جهاز حاسوب.

يقدم تشالمرز رؤيةً فلسفيةً شاملةً للواقع. تدمج بين القديم والجديد، بين الفلسفة والتقنية، بين العقل والآلة. إنها رؤية تفتح أمامنا إمكانيات للتفكير في أنفسنا، في مجتمعاتنا، وفي العالم الذي نعيش فيه، سواء كان مادياً أو افتراضياً.