في ربيع عام 2023، قدم الفيلسوف ريتشارد برنشتاين درسه الأخير في كلية نيو سكول للبحوث الاجتماعية في نيويورك، مختتماً مسيرة تدريسية امتدت لأكثر من ثلاثة عقود. كان الدرس الأخير تتويجاً لحياة أكاديمية حافلة، حيث جمع بين البراغماتية الأمريكية وفكر حنة أرندت، الفيلسوفة التي أصبحت صديقته المقربة في أواخر حياتها.
نشأ برنشتاين في حي بورو بارك في بروكلين لعائلة يهودية مهاجرة تمتلك متجراً للأثاث. درس في جامعة شيكاغو حيث كتب أطروحته عن الحب والصداقة في أعمال أفلاطون. كان من بين زملائه ريتشارد رورتي، الذي أصبح لاحقاً أبرز فلاسفة البراغماتية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
تميز برنشتاين بقدرته الاستثنائية على الجمع بين التقاليد الفلسفية المختلفة في حوار مثمر. لم يكن مجرد أستاذ فلسفة، بل كان جسراً يربط بين المدارس الفكرية المتباينة. عمل على تطوير فهم عميق للحقيقة والمعرفة من منظور براغماتي، مؤكداً أن البحث الفكري يرتبط ارتباطاً وثيقاً بكيفية عيشنا وتصرفنا في العالم.
في آخر فصوله الدراسية، وبالرغم من تدهور صحته، واصل برنشتاين التدريس عبر الإنترنت من المستشفى. كان يناقش أفكار حنة أرندت حول الشر المبتذل والتفكير الأخلاقي، مشاركاً طلابه تجاربه الشخصية وذكرياته مع أرندت نفسها. حتى في لحظاته الأخيرة، ظل ملتزماً برسالته في تعليم الفلسفة وإثارة النقاش الفكري.
كان برنشتاين يؤمن بأن الفلسفة ليست مجرد نظريات مجردة، بل هي حوار مستمر حول ما هو صحيح وخاطئ، وما نحن مدينون به لبعضنا البعض. رفض فكرة أن الحقيقة يمكن الوصول إليها من منظور كوني مطلق، مؤكداً أن فهمنا للعالم يتشكل من خلال تجاربنا وحواراتنا المستمرة.
توفي برنشتاين في الرابع من يوليو 2023، تاركاً إرثاً فكرياً غنياً يتجسد في كتبه ومقالاته وتأثيره على أجيال من الطلاب. كان آخر كتبه "تقلبات الطبيعة" الذي نُشر بعد وفاته، يواصل استكشاف الأفكار التي شغلته طوال حياته المهنية: العلاقة بين الطبيعة والمعرفة والحوار الجماعي المستمر حول ما هو صحيح وخير.
يمثل برنشتاين نموذجاً للمفكر الملتزم الذي كرس حياته للتعليم والحوار الفلسفي، مؤمناً بأن المعرفة تتطور من خلال التفاعل المستمر بين وجهات النظر المختلفة. ترك لنا درساً مهماً مفاده أن الفلسفة ليست مجرد نشاط أكاديمي، بل هي ممارسة حية تشكل فهمنا للعالم وطريقة عيشنا فيه.