الكتابة ليست سحراً: وحده التدفق لن يصنع منك كاتباً

07/30/2025
منصة المَقالاتيّ

الكتابة بالنسبة للكثيرين تبدأ بحالة تدفق ذهني خاص. ذلك الشعور الغامر الذي يجعلك تنغمس بكلماتك وتنسى مرور الوقت، وكأن الأفكار تتدفق مباشرة من أعماق عقلك إلى الورق. هذا الإحساس، الذي يُعرف بـ"الـفلو"، يشبه الإدمان ويحث الكثيرين على العودة إلى الكتابة مراراً، فقط لمتعة المحاولة من جديد.



لكن رغم متعة حالة التدفق، إلا أن الإبداع الحقيقي يتطلب أكثر بكثير من تلك اللحظات الساحرة. كما يقول كيث سوير في مقاله على MIT Press Reader، الخبرة العلمية تؤكد أن الكتابة الناجحة تحتاج إلى جهد دائم، وإصرار، وعمل مضنٍ طويل يتجاوز نشوة "الفلو". فالكاتب المحترف هو ذلك الذي يواصل النسج، التصحيح، البحث، وإعادة الترتيب رغم الضجر وغصص الطريق، ويعرف أن الإلهام وحده بدون الانضباط والتحرير الصارم لا يخلق نصاً متماسكاً ولا عملاً جديراً بالقراءة.

الكتابة الحرة – تلك التي تُمارس فيها الكتابة لذاتها لا لغرض أو مكافأة – تحقق سعادة ذاتية لا يُنكرها أحد. غير أن حُلم الانسياب الدائم في الكتابة سرعان ما يصطدم بواقع البحث والتدقيق، وضرورة التأكد من تفاصيل صغيرة قد تبدو بعيدة عن جوهر الإبداع لكنها تضمن جودته. فالحقيقة أن كل نص عظيم هو نتيجة سلسلة متكررة من التدريب، والتشذيب، والمراجعات، والصبر الشديد، وأن جوهر الإبداع ليس في الشرارة الأولى بل في جهاد تحويل المادة الخام إلى عمل مكتمل ومتين.

من يظن أن الكتابة رحلة سريعة وممتعة فقط، يفاجأ غالباً بأنه في نهاية مشواره يحمل نصاً يكاد لا يشبه ما انطلق منه، لأن التطور الحقيقي يأتي في الطريق: إعادة الكتابة، والحذف، والإضافة، وتحمل الفشل قبل بلوغ النجاح. أجمل ما في الأمر أن الكاتب يكتشف لاحقاً أن متعة "الـفلو" لا تقتصر فقط على لحظات تدفق الكلمات، بل تظهر أيضاً في التحدي ذاته، في فترات الانسداد ومحاولات الخروج منها، وفي الإصرار على بلوغ الهدف رغم التعب والإحباط.

يؤكد سوير أن الإبداع الأصيل ليس وثبة واحدة ولا حالة ذهنية عابرة، بل هو مسار طويل من الجهد والتجريب والانفتاح على المفاجآت. الكتابة الناجحة في النهاية تحتاج لشجاعة المثابرة، واحتفاء بالتجربة بجميع مراحلها المتعرجة، والأهم من كل ذلك: الاحترام العميق للطريقة الشاقة التي تُولد منها كل عبارة تستحق أن تقرأ.

ويختم سوير  بأن الفرق بين الكاتب الموهوب والكاتب الحقيقي هو قدرته على جعل العمل جزءاً لا يتجزأ من تلك المتعة، واكتشاف السحر الحقيقي في كل ما هو جاد، ومتكرر، وغير صاخب، ليكتشف في النهاية أن الكتابة ليست معجزة، بل ثقافة جهد، وعمل، وتواضع دائم أمام النص.